الجمعة، 26 يوليو 2013

روائع المسرح العالمي: سرّ النورس لأنطون تشيخوف

«النورس»

المسرح متمرداً على التراجيديا التقليدية

شكلت مسرحية "النورس"، للأديب والطبيب الروسي أنطون تشيخوف (1860 1904)، منعطفاً بارزاً أو ثورة في مفاهيم المسرح الحديث ومبادئه، سواء في روسيا أو في الغرب، خلال القرن التاسع عشر. وتمثلت هذه الثورة في حجب التراجيديا التقليدية عن خشبة المسرح، المتمثلة في الفعل وردة الفعل، لتبقى ضمنية، ولتأخذ الكلمة دوراً حركياً في أبعاد معانيها.
تتضمن "النورس"، الكثير من الأدب والقليل من الحركة، وعلاقات حب شائكة ومركبة بين شخصيات المسرحية، التي تضم أربع نساء وستة رجال، ضمن خمسة محاور.
كما تتالى مشاهد فصولها الأربعة في إحدى العزب الريفية الروسية، على ضفاف بحيرة. ويتكشف للقارئ أو المشاهد، من خلال تلك العلاقات، أبعاد الشخصيات والصراع فيما بينها، من جهة. وبين طموحاتها ونزعاتها، من جهة أخرى.
أسرة العمل
ولفهم أبعاد المسرحية ودوافع اعتبارها من الأدب الإنساني الكلاسيكي، نستعين بدراسة وتحليل الناقد صبري حافظ، الذي لخص المحاور الخمسة لعلاقات الحب الشائكة بين شخصيات العمل: السيدة آركادينا شقيقة صاحب العزبة سورين (وهي الممثلة الشهيرة التي بدأت خطوط الزمن تظهر على محيّاها وفي تصرفاتها).
ولدها الكاتب المسرحي تربيلوف، صديقها أو عشيقها كاتب القصص تريغورين، نينا ابنة العزبة المجاورة التي تحلم في أن تصبح ممثلة، العائلة التي تضم الشابة الكئيبة ماشا ابنة السيدة النرجسية بولينا وزوجها شامراييف مدير العزبة، صديق العائلة الطبيب دورن العاشق للأدب، المدرس ميدفيدنكوف.
محاور الحب
لخص حافظ محاور الحب تلك في خمسة مثلثات: الأول بين أركادينا وتريغورين وتربيلوف، والذي يختصر العلاقة التي تجمع الحب والكراهية بين الأم وابنها، والمتمثلة في عدم اعتبار الأم لموهبة ابنها وقدراته، وغيرتها الكامنة، من قدراته. وتوق الابن للاستئثار بحب والدته واعترافها بموهبته، وغيرته عليها من تريغورين، وحالة السأم بين تريغورين وأركادينا.
أما المثلث الثاني فيجمع بين نينا وتربيلوف وتريغورين. وفي هذا المثلث، يدمر تريغورين، بدافع شعوره بالملل، علاقة الحب بين الشابين، نينا وتربيلوف، المتشابهين في طموحاتهما، لتقع نينا في غرامه من منظور الانبهار بفكره وحديثه، بينما تتحطم آمال تربيلوف الذي يفقد ثقته بنفسه كإنسان ومبدع، ما يزيد من حنقه على تريغورين الذي يستلهم قصصه ممن حوله، من دون أي جهد.
ويجمع المثلث الثالث، بين ماشا وتربيلوف والمدرس ميدفيدنكوف. إذ تُغرم ماشا بتربيلوف، وتعد حبها له وسيلة الخلاص من الحياة الباهتة التي تعيشها، بينما يجد المدرس العاشق لماشا، أن تربيلوف هو غريمه. ويعزو فشله في كسب ودها، إلى مكانته ودخله المتواضع.
وحين تيأس ماشا من تربيلوف تتزوج من المدرس لتعيش حياة باهتة، وليتحمل ميدفيدنكوف كافة مسؤوليات الزواج والابنة. وبذا تكرر ماشا حياة والدتها بولينا.
في المثلث الرابع، تحاول بولينا الأم استعادة علاقة العشق السابقة مع الطبيب دورن، الذي يرفض محاولاتها، بينما يتحمل شامراييف الأب كافة مسؤوليات الأسرة، بلا أية مشاركة من زوجته بولينا. وأخيراً، يشمل المثلث الخامس: نينا وتريغورين وأركادينا.
كوامن ونزعات
يتجلى من هذه المحاور، الألم الدرامي الذي تعيشه كافة الشخصيات، من كتاب وفنانين ومبدعين وأفراد من مجالات وفئات متنوعة، جراء الحب. ونتعرف من خلال الحوارات بين الشخصيات، على كوامن ونزعات كل شخصية عبر تفاعلها ضمن أجواء مجتمع أعلى من شأن الادعاء والتشدق والعبثية.
فالبراءة تُسلب بدافع الهرب من خواء الروح، والغيرة تحطم الموهبة، والحب غاية في حد ذاته لتتحول الحياة إلى العدم بفقدانه، والشهرة المعيار الوحيد للنجاح. وهناك الغرور الذي يطغى على الطموحات ويحد من تألق مواهب أصحابها.
غياب الوعي
يفترق الجميع بعد تلك الزيارة، ليمضي عامان قبل لقائهما مجدداً، ويدرك القارئ أو المشاهد أنه خلال هذين العامين لم يستطع تربيلوف نسيان نينا، على الرغم من نشره لعدد من أعماله، بينما لم تتمكن نينا من تحقيق أحلامها في الشهرة لتصبح ممثلة مغمورة في بعض الفرق المسرحية الجوالة، إلى جانب تخلي تريغورين عنها في موسكو بعد أن اتخذها عشيقة له، إلى حين.
تتسلل نينا إلى العزبة لتلقى تربيلوف بمفرده في مكتبه، ويتجلى من الحوار بينهما ما حققه كلاهما خلال فترة الغياب. وهنا يتكشف إدراك الذات عند نينا وغياب الوعي لدى تربيلوف.
فنينا تستعرض أمامه رحلتها الفنية، لتربط مجدداً بين حياتها وبين طائر النورس، الذي كانت تُشبه نفسها به فيما مضى لدى زيارتها البحيرة في عزبة سورين، كتعبير عن الشعور بالحرية، إلا أنها بعد عودتها تشبه نفسها بالنورس الذي لا وجهة له في الحياة، حيث أدركت أن مضمون الحياة يكمن في تحمل تقلباتها والتطلع إلى المستقبل، من خلال قيمة السعي والمثابرة، اللذين لا يحملان بالضرورة، الشهرة.
وهنا يتجلى فارق الوعي بين الطرفين، إذ لا يزال تربيلوف عالقاً بإرادته في حلقة الحب المفقود، التي لا يرغب في الخروج منها ذلك غاية رؤية الحياة من حوله. وليبقى بهذا، أسير حلقة التعاسة هذه........ العديد من الشخصيات المكبلة بنوازعها الذاتية، والتي لا تدرك أن أوهامها حالت دون فرص السعادة التي يمكن أن تمنحها الحياة لها في كل لحظة وحالة.
رمزية النورس
وفي حين تعاملت نينا مع النورس كرمز للحياة، منذ البداية وحتى النهاية، فإن تربيلوف تعامل معه كرمز للموت. إذ اصطاد هذا الطائر وقدمه إلى نينا في بداية علاقتهما، كتعبير عن حبه لها واستعداده لقتل نفسه لأجلها، ليقوم بعد عودة نينا، بقتل نفسه لإدراكه استحالة العودة بسبب اختلاف تطلعاتهما بين السعي المستمر كغاية في حد ذاتها، وبين الشهرة والحب كهدف مطلق.
سيرة
أنطون تشيخوف (1860 1904). كاتب مسرحي روسي. وهو، قبل ذلك، طبيب وكاتب قصة قصيرة. يعد عراب المسرح العبثي في القرن التاسع عشر، وشكسبير المسرح الروسي. كما أنه رائد المدرسة الواقعية إلى أواخر القرن 19.
واشتهرت، على صعيد المسرح، أعماله الأربعة، التي لا تزال تعرض في أهم مسارح العالم: «النورس»- (1896)، «العم فانيا»- (1900)، «الشقيقات الثلاث»- (1901)، «بستان الكرز»- (1904).

السبت، 20 يوليو 2013

أعمال خالدة: مسرحة موت بائع متجول

«موت بائع متجول»

إخفاقات تكشف زيف الحلم الأميركي

ما الذي يميز مسرحية "موت بائع متجول"، لأحد أبرز عمالقة المسرح الأميركي، آرثر ميلر، ويجعلها من روائع الأدب العالمي؟ سؤال توافقت إجابات النقاد والأكاديميون فيه على قيمة وتأثير شخصية بطل المسرحية البائع ويلي لومان.
ومن خلال ويلي وعائلته، ينتقد ميلر، بصورة لاذعة، أحلام المجتمع الأميركي خلال الأربعينات من القرن العشرين، في النجاح والمنافسة، إذ يقاس النجاح والتميز بالمادة والثروات. ونظراً لأن ويلي لومان شخص محدود القدرات والإمكانات، فإنه يحاول إخفاء عجزه ومشاعر الإحباط، خلف أوهام الشعور بالعظمة والنجاح.
استلهم ميلر فكرة المسرحية من أحد أقربائه الذي كان يعمل بائعاً متجولاً، وحين عُرض العمل على مسرح برودواي، حقق نجاحاً فورياً، وحاز على جائزة "بوليتزر" الأدبية عام 1949، لتشكل مسرحيته هذه منعطفاً بارزاً في حياته الأدبية.
ومثل جميع الأعمال الكلاسيكية، فإن "موت بائع متجول" تصلح لمختلف الأزمنة والعصور. إذ تنتقد الرأسمالية ومعايير النجاح التي تعتمد على العنصر المادي وحده.
عائلة وأزمات
تبدأ المسرحية بعودة البائع العجوز ويلي لومان من أحد أسفار العمل، والذي مني بالفشل. وبعد أن كاد يتعرض لحادثين خلال قيادته السيارة، نجده يدرك أن عليه التوقف عن القيادة.
وحين تدرك زوجته ليندا، عدم قدرته على السفر كبائع جوال، تقترح عليه أن يطلب من رئيسه هاورد، نقله إلى العمل في مكاتب نيويورك حيث يقيمون.. ويرحب لومان بالفكرة، خاصة وأنه يعتبر نفسه من أكفأ البائعين في الشركة.
يتعرف القارئ أو المشاهد بعدها، ضمن العمل، على خلفية عائلة لومان، التي تضم زوجته ليندا وولديهما الشابين: بيف وهابي. وكان بيف قد عاد للتو إلى بيت العائلة، عقب عمله في مزرعة تقع في الغرب. ويعتقد ويلي أن بإمكان ابنه البكر بيف، أن يحقق النجاح والثروة بسهولة ويسر.
لكنه يهدر مواهبه وقدراته في العمل كسائق شاحنة. وفي ليلة عودته من رحلته، يبدأ ويلي في رؤية ومضات من ماضيه. ويتخيل مجموعة مشاهد يتحدث من خلالها مع أشخاص، كأنهم موجودين في الواقع.
ويدخل في جدل. ومن ثم يعلو صوته ويشرع في الصراخ.. يحس بيف بالمسؤولية ويجد أن عليه ترميم العلاقة مع والده، ويجدر به التصرف. وبذا يقرر الاستدانة من بيل أوليفر، أحد مديريه ليبدأ عمله (مشروعه) الخاص.
ومع استمرار حالة ويلي، تعترف ليندا لولديها، في أنها وزوجها، يقبعان في ضائقة مادية. والأسوأ، أن ويلي حاول الانتحار. وتحمل ولديها أسباب قلقها.. ويحتدم النقاش بينهما، ليبدأ جدل جديد بين بيف ووالده. وهنا يتدخل هابي فيخبر والده بمشروع بيف الجديد. ويشعر ويلي آنذاك، بالسعادة، ومن ثم يذهب الجميع إلى النوم.
وحين يقابل ويلي مديره، في اليوم التالي، ويطلب منه نقله، يفاجأ أنه يرد بطرده من العمل. ونتيجة الصدمة، يبدأ في الهلوسة. ويعود إلى الحديث مع أشخاص متخيلين في طريق عودته للقاء ولديه في أحد المطاعم.
كما يدرك بيف أن حلمه باستدانة المال لتأسيس عمله فكرة جنونية.. وأنه لن يتمكن مطلقاً من الحصول على قرض، وفوق كل ذلك، أنه وعائلته، عاشوا في كذبة كبيرة طيلة حياتهم.
وعندما يصل ويلي المطعم، ويسأل عن الأخبار السعيدة، يجد بيف صعوبة في إطلاع والده على الحقيقة، ويحاول ويلي العودة إلى أحلام الماضي، تحديداً تلك اللحظات التي اكتشف فيها ابنه بيف، علاقته مع إحدى النساء في بوسطن. وبينما كان الوالد غارقاً في أحلامه، يترك بيف وهابي والدهما، ويغادرانه صحبة صديقتين لهما.
"مجرد فاشل"
يعود الشقيقان لاحقاً إلى البيت ليجدا والدتهما في انتظارهما، ويلتقياها بينما الغضب يهيمن عليها لتركهما ويلي (الأب) في المطعم. وتتصاعد حدة الجدال بينهم.. ولا أحد يرغب في الاستماع إلى ما يود بيف قوله..
لكنه ينجح في توصيل وجهة نظره، المتمثلة في عدم قدرته على تحقيق توقعاتهم غير الواقعية بشأن مستقبله، وجعلهم يتقبلون الحقيقة في أنه مجرد إنسان فاشل.. وكذا كونه الوحيد الذي يدرك أنهم يعيشون في كذبة.
وتنتهي ليلة الجدل بإدراك ويلي، أنه على الرغم من فشل بيف فإن الأخير يحبه بعمق. وللأسف لا يستطيع ويلي تجاوز جزئية "الفشل". ويستغرق في أحلام جديدة، يرى فيها أن السبيل الوحيد ليحقق لابنه أحلامه، الانتحار. إذ يمكن لبيف، حينها، تحقيق مشروعه من خلال مال بوليصة التأمين.
وما هي إلا دقائق إلا وتسمع العائلة صوت اصطدام عنيف، ليكتشف الولدان وأمهما أن ويلي قتل نفسه بحادث سيارة متعمد (جراء السرعة الكبيرة).
"نحن أحرار"
ذهول كبير يعتري ليندا وهابي، خلال مراسم جنازة ويلي (الأب)، بفعل عدد المعزين الضئيل. وهنا يقول بيف، إن ويلي عاش أحلام غيره.. لكن شارلي، صديق ويلي- الموجود في المراسم- وجاره، يدافع عنه مؤكداً أنه كان ضحية لمهنته. وعندما يهم بيف في المغادرة، يباشر إلى دعوة هابي إلى العودة معه نحو الغرب.
لكن الأخير يرفض ويقرر البقاء في نيويورك لمتابعة إجراءات وأوراق موت والده. وفي الخضم، نجد ليندا تخاطب روح زوجها، سائلة إياه الغفران لها، لعدم قدرتها على البكاء. إلا أنها تنفجر فجأة بالنحيب. وتشرع تردد: "نحن أحرار...".
«عين المجتمع»
عدت أعمال آرثر آشر ميلر (1915 2005)، عين المجتمع الأميركي. وذلك من منطلق الجانب الإنساني الناضج والناضح فيها، خاصة في الحقبة ما بين 1940 و1950. وأيضاً خلال فترة بداية الستينات من القرن العشرين. وحازت أعماله على جوائز عديدة، من ضمنها: "بوليتزر للدراما".
ولد ميلر في كنف عائلة ثرية، لكنها فقدت ثروتها في مرحلة مراهقته.. وهو ما دفعه إلى خوض غمار جميع المهن والأعمال الصغيرة ليتمكن من متابعة دراسته. ومن ثم، عمل في مرحلة الدراسة الجامعية، في حقل الصحافة، وباشر، في تلك المرحلة، كتابة مسرحيته الأولى: "ما من أوغاد".
يتمثل العمل الأول الذي عرض لميلر على مسرح "برودواي"، في (الرجل الذي كان ينعم بكل الحظ).. في العام 1944. وأعقاب ذلك، فازت مسرحيته (كلهم أبنائي) بجائزة (دراما كريتيكس سيركل). وفي 1949 منح جائزتي بوليتزر و(دراما كريتيكس أوارد)، عن أشهر أعماله: (موت بائع متجول).
تزوج ميلر عام 1956 من الممثلة مارلين مونرو. وبعد انفصالهما سنة 1961، اقترن في عام 1962، بالمصورة النمساوية اينغبورغ موراث، التي توفيت في 2002، في مدينة نيويورك. ولديه ولدان من زوجته الأولى، ماري غريس سلاتيري، التي تزوجها عام 1940. وأيضاً اثنان، من اينغبورغ موراث

الثلاثاء، 9 يوليو 2013

الحرب والسلم

«الحرب والسلم»

أسطورة الأدب الروسي والعالمي


تعتبر رواية "الحرب والسلم"، للروائي الروسي ليو تولستوي (1828 1910)، من روائع الأدب الكلاسيكي، منذ نشرها عام 1869 وحتى يومنا هذا. وتمثل أسطورة الأدب الروسي والعالمي. وهي عمل ملحمي يتناول بالتفصيل، أحداثاً في إطار احتلال فرنسا لروسيا، وتأثيرات عهد نابوليون ومجتمع القيصر، من خلال عيون خمس عائلات أرستقراطية.
وتعرف الرواية، التي نشرت في البداية على حلقات بعنوان (عام 1805)، في مجلة "المراسل الروسي"، ما بين عامي 1865 و1867، بأنها إحدى أطول الروايات التي كتبت عبر التاريخ. وتصنف بالرواية السابعة في طولها، ضمن الأعمال التي كتبت بالأحرف اللاتينية. وتضم أربعة مجلدات.
ووصف تولتسوي روايته هذه: "إنها ليست برواية أو حتى قصيدة أو تسلسل تاريخي". كما اكد أن أبرز الأعمال في الأدب الروسي لا تتطابق مع المعايير التقليدية المتعارف عليها. وتميزت الأجزاء الأخيرة من العمل، بتحول السرد إلى مناقشة فلسفية.
1812
تدور أحداث الرواية قبل 60 عاماً من الزمن الذي كتبت فيه، وتحدث مع الأجداد الذين عاشوا خلال الحرب واحتلال الفرنسيين لروسيا عام 1812. وعليه، فإن الرواية تشتمل على سمة المصداقية التاريخية، المحكية في إطار أدب الخيال. ونتيجة بحوثه وقراءاته، أوصل تولستوي عدد شخصيات الرواية لما يقارب 160 شخصية. كذلك ترجمت إلى اللغة الإنجليزية وحدها، أكثر من 11 مرة.
احتلال موسكو وعلاقات عائلية
اللافت في الرواية كتابة تولستوي بالروسية والفرنسية، سواء في السرد أو في الحوارات. إذ تتنقل الشخصيات في كلامها، بين اللغتين. ويعكس هذا الجانب، واقع حياة المجتمع الروسي الأرستقراطي في القرن 19، حين كان استخدام الفرنسية يعكس رقي الفرد ورفعة مكانته.
ونتبين في الرواية، أنه تنحسر المفردات الفرنسية تدريجياً، مع وصول الحروب إلى أوجها، واحتلال موسكو وإحراقها. لتغيب تماماً من النص. وهو ما يعكس عودة الروس إلى ثقافتهم، والتحرر من هيمنة الثقافة الأجنبية.
تبدأ أحداث الرواية عام 1805، خلال حكم القيصر ألكسندر الأول حفيد كاثرين العظمى، وحتى احتلال الفرنسيين لروسيا عام 1812 في عهد نابوليون. ويتعرف القارئ على الأحداث التاريخية والاجتماعية، عبر تفاصيل تداخل علاقات خمس عائلات أرستقراطية: آل بزوخوف، آل بولكونسكي، آل روستوف، آل كوراجين، آل دروبيتسكوي.
تتصف عائلة آل بزوخوف، بالثراء الواسع وبتفكك الروابط الأسرية، أما آل بولكونسكي فإضافة إلى ثرائهم خدموا في بلاط كاثرين العظمى، بينما يتمثل ثراء أسرة آل روستوف في موسكو بالعقارات والأراضي دون توفر المال مع ترابط أسري قوي وإن كانوا يعيشون الحياة بلحظتها دون اعتبار لمواردهم. ويثر أبناء عائلة آل كوراغين الثلاثة الكثير من التساؤلات، وأخيراً عائلة آل دروبيتسكوي التي تجمع بين أصول نبيلة وضيق الحال.
نقطة الانطلاق
تبدأ أحداث الرواية من مدينة سانت بطرسبرغ عام 1805، مع بداية اجتياح نابليون غرب أوروبا. ومن ثم تخوف روسيا إزاء ذلك. ويقدم العديد من شخصيات الرواية في حفل اجتماعي. إذ يجري التعرف على شخصيات كل أسرة من الانتهازيين ومقتنصي الفرص والوصوليين.
قصص اجتماعية وتحركات رسمية
نتعرف في العمل على انطلاق تحركات قوات الجيش الروسي مع حليفة روسيا، آنذاك، الإمبراطورية النمساوية. ويذهب كل من: الشاب الطموح والذكي أندرو بولكونسكي والفتى المتهور نيكولاس روستوف، إلى الجبهة.
وبينما يصاب أندرو بجرح وتنقطع أخباره عن أسرته ويعتبر من ضمن القتلى، يصبح بيير بزوخوف، الشاب غريب الأطوار، الوريث الشرعي لوالده الثري، فيتزوج الفتاة الجميلة هيلين كوراغين في عجالة. وسرعان ما يكتشف بيير خيانتها له. ثم يدعو عشيقها إلى المبارزة، ويحاول الخروج من احباطه بالانضمام إلى الماسونية.
وفي موسكو، تتصادف عودة أندرو إلى أسرته، مع ولادة زوجته ليزا، والتي تفارق الحياة ما أن تضع مولودها. ويكرس أندرو وقته لابنه ولإدارة العقار. كما تحاول هيلينا استسماج بيتر وطلب العفو عنها، وبعد مضي فترة زمنية، يغفر لها.
يدرك أندرو عبثية فكرته، لدى زيارته سانت بطرسبرغ، القاضية في مقابلة الإمبراطور واطلاعه على المخطط العسكر الذي وضعه. وهناك يقابل ناتاشا، من أسرة روستوف، ويرتاح لها. وسرعان ما يطلب يدها للزواج. إذ لا تتأخر في الموافقة على ذلك. لكن والد آندرو يعارض الزواج ذاك. فيسافر إلى الخارج لمدة عام. وتتداخل القصص وتحاك الدسائس، هنا وهناك، بين الأقارب والمعارف، تبعاً للغايات والمصالح.
«بوردينو»
تقدم في مجريات أحداث الجزء الثالث من الرواية، عمليات بدء معركة بورودينو عام 1812، والتي يحتل نابليون على اثرها، موسكو، مع وقوع خسائر كبيرة في الأرواح لدى الطرفين. وتقصف القوات الفرنسية عقار الأمير بولكونسكي، الذي يصاب بذبحة صدرية، إذ يفارق الحياة عقبها. كما يتعرف القارئ على شخصية القائد نابليون، المتعجرف والنرجسي، الذي يدير المعركة مع عدد من الجنرالات المحنكين.
وتنفتح الرواية على صفحات سرد موسع عن طبيعة الحرب في بورودينو، بعد عودة بيير إلى الجيش، ومشاهدته أرض المعركة التي بدت له كالمجزرة، حيث اكتست بجثث القتلى من الجانبين. وما إن يدخل نابليون موسكو، حتى يشرع بيير في التخطيط لقتله.
ونختبر ماهية الحرب من منظار آخر، عبر أندرو، الذي يشهد في خيمة الإسعاف، مآسي الحرب ومعاناة الجنود، لنعيش معه لحظة إنسانية نجد آندرو يدرك من خلالها، مدى حبه الكبير للإنسانية جمعاء، حتى لأعدائه.
وفي أثناء انتظار بيير ظهور بونابرت، ينقذ ضابطاً فرنسياً من الموت، وأيضاً طفلة من الحريق الذي دمر نصف موسكو. إضافة إلى إنقاذه شابة من محاولة اغتصاب من قبل جندي فرنسي، لينتهي به الأمر معتقلاً لدى القوات الروسية، ذلك بتهمة التسبب في الحريق.
ويعي بيير من خلال مرافقته للمعتقل الآخر معه، بلاتون (الفلاح)، قيمة الحياة كهبة إنسانية. وتسهم المليشيات في تحريره من الأسر، ومن جانب آخر، يفارق أندرو الحياة بعد لقائه بناتاشا، خلال وجوده مع قوات المقاومة.
وتتطور أحداث الرواية مع الحرب، ليعاد إعمار موسكو بموازاة موت الكثيرين. إذ تعاود الحرب صوغ تفكير العديد من الشخصيات الرئيسية في العمل، مثل: بيير الذي تربطه علاقة حب بناتاشا.
وتنتهي الرواية بجدال بين بيير ونيكولاي، حول سلبيات الامبراطور الكسندر، الذي استغرق في الدين، تاركاً البلاد في أيدي حفنة من الاندفاعيين. وينوه بيير إلى قيام الامبراطور ببعض التغييرات في النظام، في حين يصر نيكولاي على الدفاع عنه بصورة من الولاء المتعصب.
1805
بدأت كتابة تولستوي عن الحروب خلال خدمته في حرب "القرم"، عبر مجموعة من قصصه ورواياته القصيرة. أما روايته "الحرب والسلم". فبدأ في كتابتها بعد زواجه واستقراره في بيته.
وكتب تولستوي النصف الأول من المجلد الخاص بهذه الرواية، تحت عنوان "1805"، وأنجز المسودة الأولى من الرواية سنة 1863. ومن ثم نشر بعض الأجزاء منها في العامين التاليين. وخلال كتابته للنصف الثاني، قرأ بكثافة وتعمق، أعمال الفيلسوف الألماني شوبنهاور (1788 1860)، الذي اعتبره أحد أبرز ملهميه.
كما شرع في تطوير قناعاته الخاصة عن التاريخ ودور الأفراد فيه. وقرأ تاريخ معظم ما كتب عن حروب نابوليون، بالروسية والفرنسية. ومجدداً، أعاد كتابة الرواية بأكملها خلال الفترة بين عامي 1866 و1869، ليجمع فيها، بين أسلوب السرد التاريخي والروائي.
في السينما
1915 قدم أول فيلم روسي عن الرواية.وإخراج فلاديمير غاردين.بطولة: غاردن وراقصة الباليه فيرا كارالي.
1956 فيلم أميركي حمل اسمها. إخراج كينغ فيدور. وبطولة: أودري هيبورن، هنري فوندا، ميلي فيرير.
1966 أطلقت نسخة الفيلم الروسي للرواية، للمخرج سيرغي بوندارشو. بطولة ليودميلا سافيلييا بدور ناتاشا بولكونسكي.
في التلفزيون
1972 أنتجت محطة البث البريطانية بي بي سي، مسلسلاً اقتبس عن الرواية،من بطولة: أنطوني هوبكنز،روبرت ديفيس.إخراج :جون ديفيس.
2000 أنتج التلفزيون الفرنسي فيلماً عن "الحرب والسلم".إخراج فرنسوا روسيلون. ولعب دور بيير فيه، روبرت بروبيكر.
2007 أنتج التلفزيون الإيطالي العمل، كحلقات قصيرة،. من إخراج: روبرت دومهيلم.

وداعاً للسلاح

«وداعاً للسلاح»

لغة الحب تهجو الحروب

استلهم الروائي الأميركي، إرنست همنغواي، عنوان روايته "وداعاً للسلاح"، التي نشرت عام 1929، من قصيدة درامية للشاعر جورج بيلي في القرن السادس عشر. وهي تعد من الأعمال الأدبية التي تجاوزت بزخمها حدود النص.
تستمد الرواية ديمومتها، من قاعدة ثراء نصها الأدبي الذي تجاوز بزخمه، قدرات الكاتب نفسه، كذلك نبرة الاستنكار العالية والمهارة في تعرية أهوال الحروب، تحديداً الحرب العالمية الأولى. ويوازي تلك النبرة، شغف كبير بالإبداع والكتابة وتحويل الكلمات إلى حروف من ذهب، مع كثافة في المشاعر المحملة بين السطور.
خصوصية
تتجلى خصوصية النص من خلال مقتطفين من ما ذكره همنغواي في مقدمة إحدى طبعات روايته: "أذكر أنني عشت خلال كتابتي لهذه الرواية أسعد أوقات حياتي، كنت أعيش في الكتاب وأصنع أحداثه كل يوم. كنت أشكل المدينة والناس والأشياء التي حدثت. في كل يوم أقرأ ما كتبت منذ البداية وحتى اللحظة التي يتوجب عليّ متابعة الكتابة. وكل يوم كنت أتوقف وأنا لا أزال في حالة معنوية جيدة، وأعرف ما الذي سيحدث لاحقاً".
ويضيف همنغواي في حديثه بالخصوص: "لم تسلبني تراجيديا الكتاب سعادتي، لقناعتي أن الحياة نفسها تراجيديا ونهايتها واحدة. لكن ادراك أن بإمكان الإنسان اختلاق شيء ما، والإبداع بما يكفي من المصداقية، كفيل بجعلك سعيداً لدى قراءته، لأعيش سعادة لم أعرف مثلها من قبل. وإزاؤها تغيب معاني التفاصيل".
عمق إبداعي
الطريف أن همنغواي كتب 39 خاتمة للعمل، وقال في مقابلة مع "باريس ريفيو" عام 1958: "كلمات رواية (وداعاً للسلاح) الأخيرة، كتبتها 39 مرة، قبل شعوري بالرضا عن الخاتمة".
تقسم الرواية إلى خمسة مجلدات. ونتعرف فيها على شاب أميركي يقود سيارة اسعاف الصليب الأحمر في إيطاليا، خلال الحرب العالمية الأولى، يدعى الملازم هنري. ولا نتعرف على اسم الراوي الكامل إلا في المجلد الثاني من الرواية.
وتدور الأحداث أو الذكريات التي يسردها الراوي فريديريك هنري، في الماضي. والشيق في الرواية أن القارئ لا يعرف عمر الراوي، ومكانه لدى سرده قصته. أو أي شيء عن عمره خلال الأحداث التي مر بها، تاركاً للقارئ التكهن بها عبر زمن الرواية. ويقدر النقاد زمن الرواية بما يقارب الست سنوات. وفي طبيعة الحال، يتجلى أو يستنتج تقدير السنوات تلك، بفعل المعارك التي يصفها الراوي.
أحداث تصاعدية
تحكي الرواية، في مجلدها الأول، قصة لقاء هنري، بوساطة صديقه رينالدي، الفتاة كاثرين باركلي الانجليزية، التي تعمل كممرضة في بلدة غوريزيا، حيث يقع مستشفى الصليب الأحمر. وتبدأ بينهما علاقة رومانسية. لكن، وعندما يجرح هنري في إحدى المعارك، يرسل إلى مستشفى في ميلانو.
ويصل هنري إلى المستشفى الأميركي في ميلان، ضمن أحداث المجلد الثاني. ومن ثم تلحق به كاثرين إلى هنا، من دون تردد، وحين يراها أمامه، يدرك حبه العميق لها. وتتطور العلاقة بينهما في أثناء فترة تعافي هنري من جراحته، طوال ثلاثة أشهر، وشربه المبالغ به للكحول.
تخبر كاثرين هنري، انها حامل في الشهر الثالث، فيخطط الاثنان لقضاء إجازة نقاهته معاً، لمدة ستة أسابيع. وعندما تضيق رئيسة المستشفى الآنسة فان كامبن، ذرعاً بإدمان هنري الكحول. وكذا بنبرته الوقحة، ترفض طلب إجازة نقاهته، ثم تأمر بإعادته إلى غوريزيا. فيمضي الحبيبان، الليلة الأخيرة لهما في ميلانو، في أحد الفنادق. ويستقل هنري، عقبها، قطار منتصف الليل. وهما لا يعلمان إن كان سيكتب لهما لقاء آخر.
يستغرق هنري، في الجزء الثالث، في مهمة انسحاب الإيطاليين من أحد المناطق بعد اقتحامها من النمساويين. وخلال إحدى جولاته، تنغرز عجلات السيارة في الطين، ما يضطرهم إلى تركها والمتابعة سيراً. وحين يطلب هنري من الجنديين اللذين يرافقاه وزميله، مساعدتهما في إفراغ محتويات السيارة، يطلق النار ويقتل أحدهما، بعد رفضهما تقديم العون. وتلك هي المرة الأولى التي يقتل فيها.
يعتقل هنري في مقر "بوليس المعركة" حيث يجري التحقيق مع المشتبه بخياناتهم وإعدامهم، والتي كانت (الخيانات)، حسب زعمهم، سبب هزيمة الإيطاليين. وبعد مشاهدته وسماعه عن التحقيقات التي تنتهي جميعها بالإعدام، يرمي هنري نفسه بالنهر وينجح في الهرب.
بحث فلقاء فمأساة
يذهب هنري، في تفاصيل وحبكة المجلد الرابع ضمن الرواية، إلى ميلان، باحثاً عن كاثرين التي انتقلت إلى بلدة أخرى. وبعد تدبير أمره وارتدائه الثياب المدنية، يتوجه إلى ستريسا حيث تقيم. وبأعجوبة، يعثر عليها. فيمضي الاثنان بضعة أيام في سعادة كاملة، حتى يصل إلى علمه في منتصف إحدى الليالي، أمر القبض عليه لهربه من الخدمة العسكرية. ويتبنى الاثنان خطة جريئة فيهربان بالقارب إلى ضفاف شاطئ في جوار سويسرا، وينجحان في إقناع السلطات السويسرية، أن زيارتهما خاصة بالرياضات الشتائية، وهكذا يسمح لهما بالاستقرار هناك.
وتطلعنا الأحداث في المجلد الخامس، على كيفية استئجار العاشقين كوخاً جبلياً، ذلك قبل شهر من ولادة طفلهما. ثم ينتقلان إلى فندق قريب من أحد المستشفيات. كما نقرأ كيف تتعسر ولادة كاثرين، إذ تخضع لعملية قيصرية، ويولد الطفل. لكنه يموت بعد فترة قصيرة، وسرعان ما تلحق به كاثرين، بعد نزيف حاد تملك منها.
في السينما
1932 استلهمت السينما الأميركية فيلمها الأول من الرواية، في فيلم أخرجه فرانك بورزاجي،بطولة: هيلين هييز وغاري كوبر. و سيناريو: أوليفر غاريت وبنجامين غليزر. ونال جائزة أكاديمية عن أفضل تصوير وهندسة صوت.
1957 قدمت سينما دولوكس كولور سكوب، فيلماً من وحي الرواية، أخرجه شارلز فيدور. بطولة: روك هيدسون وجينيفر جونز وإيلين ستريتش.
في الإذاعة1932 قدم مسرح لوكس في أميركا، رواية " وداعا للسلاح"، للإذاعة، ضمن مسلسل مؤلف من 127 حلقة. من بطولة كلارك غيبل وجوزيفين هاتشينسون وجاك لا رو. وكانت الحلقات تقدم بثاً مباشراً لمدة ساعة في الاستوديو، بحضور جمهور كبير. وقدم العمل في السنوات اللاحقة من قبل إذاعات عديدة. وأدى الأدوار فيها، ممثلون مختلفون، مثل: ميريام هوبكنز وجون بولز.
بطاقة
كان إرنست ميللر همنغواي الذي ولد عام 1899 في إحدى ضواحي شيكاغو، كاتباً وصحافياً. وحقق أسلوبه في الكتابة، تأثيراً كبيراً على ساحة الأدب الروائي في القرن العشرين. وأثرت سمات شخصيته ومغامراته، بعمق، في الأجيال اللاحقة. وأصدر معظم أعماله خلال الفترة ما بين 1920 و1950.
كما فاز بجائزة نوبل للآداب عام 1954. وفي عام 1959 استقر في بيته الجديد بإيداهو حيث انتحر صيف عام 1961. نشر همنغواي سبع روايات وست مجموعات قصصية قصيرة، وعملين في الأدب الواقعي. كما نٌشر له بعد وفاته، 3 روايات، و4 مجموعات قصصية قصيرة، و3 أعمال في الأدب الواقعي.

روائع المسرح الكلاسيكي

«عربة اسمها الرغبة»

وحشية الواقع وشاعرية اللحظة




دخلت مسرحية "عربة اسمها الرغبة"، للكاتب الأميركي تيننسي وليامز، التي فازت بجائزة "بوليتزر" الأدبية عام 1948، تاريخ روائع الأدب العالمي، منذ عرضها الأول على مسرح "برودواي" عام 1947. وكان لها كبير الأثر في توسيع آفاق دراما المسرح الأميركي في القرن العشرين. والسؤال الذي يطرح نفسه: ما العوامل التي جعلت هذه المسرحية استثنائية؟
"الواقعية الشعرية" كما يرى بعض الأكاديميين والنقاد، هي أحد أبرز عوامل النجاح في العمل، حيث جمع وليامز بين وحشية الواقعية وشاعرية اللحظة، من خلال تصعيد درامي يصل إلى الذروة في تعرية تناقضات النفس البشرية، التي تغتصب براءة اللحظة لتنهار أقنعة الادعاء والزيف والتبجح الإنساني في غياب أي شاهد، إذ يلعب وليامز في مضمون المسرحية، على فكرة المثل والأخلاق، بين الظاهر والباطن. فمن يبدو شريراً للوهلة الأولى يتجلى لاحقاً بمثابة ملاك، مقارنة بما تضمره دواخل النفس البشرية التي تتجمل باكسسوارات الخير.
بلانش وكلاوسكي
تبدأ المسرحية بوصول السيدة بلانش دوبوا، التي لا تزال تحمل ملامحها بقايا جمال الصبا، إلى شقة أختها ستيلا المتزوجة. فتستقبلها الاخيرة بقليل من البرود، حيث ما من صفات مشتركة بين الأختين، إضافة إلى اختيار ستيلا حياة زوجية متواضعة، هرباً من الحياة المتكلفة التي كانت تعيشها عائلتها.
تستفز سلوكيات بلانش المستهترة، ستانلي كلاوسكي، زوج ستيلا، الذي يبدأ بالتذمر من وجودها في شقتهما الضيقة.. ومن الغموض الذي يحيط بفترة زيارتها. يتحرى ستانلي ويتقصى عن ماضيها ليكشف لزوجته الأحداث المشينة التي ارتبطت بأختها، ويصر على طردها من البيت، لكن ستيلا تدافع عنها. فيفقد ستانلي أعصابه ويضرب زوجته الحامل للمرة الاولى.
وسرعان ما يعتذر وتصفح زوجته عنه، ذلك مع بقاء بلانش، التي تتعرف، بعد ايام، على مينش، أحد أصدقاء ستانلي، الذي تجذبه شخصيتها وأنوثتها. وحين يلحظ اعجاب صديقه بها، يسخط عليها ويحاول النيل من مكانتها أمام مينش، فيتفق الاثنان على اللقاء خارج البيت سراً.
نبش الماضي
وهنا يبدأ ستانلي التقصي حول ماضي بلانش في البلدة التي كانت تقيم فيها، فيعرف أنها طردت من المدرسة بسبب سلوكها الشائن وعلاقتها بأحد الطلبة المراهقين، إلى جانب طردها من شقتها لعدم تسديد الإيجار. وغير ذلك من القصص.
ويكشف ستانلي لزوجته عن هذه المعلومات، خلال احتفال ستيلا بعيد ميلاد شقيقتها، ويقدم لها كهدية، تذكرة سفر بلا عودة. فيتأزم الموقف بدفاع ستيلا عن أختها، وقبل احتدام الامر بين الزوجين يخبر ستانلي بلانش أنه أطلع مينش على كافة تفاصيل ماضيها، وفجأة تداهم عوارض الولادة ستيلا. فيسرع بها زوجها إلى المستشفى.
الوحش الكامن
بعد مضي بضع ساعات، يصل مينش ويعيد ما قاله صديقه عنها وهو يبكي. وهنا تبوح بلانش له بدوافع طيشها، الذي كان ردة فعل على انتحار زوجها حين أدرك أنها كشفت سره بشأن علاقاته العاطفية الشاذة. ولا يتردد مينش في فرض نفسه عليها، بعد أن اعتبر أنها امرأة سهلة المنال. لكن بلانش تصده وتطرده من البيت.
يعود لاحقاً ستانلي بمزاج مرح وهو يترنح بثمالته، وكانت بلانش ثملة أكثر منه. فيقترح ستانلي عليها الاحتفال بمناسبة مولوده الجديد، لكنها تسخر منه ويحتدم الجدل بينهما، وهو ما يدفع ستانلي إلى اغتصابها.
نشاهد في الفصل الأخير، بعد مضي بضعة أسابيع، ستيلا مع جارتها توضبان حقيبة ملابس، لندرك أنها لبلانش التي تأخذ حماماً استعداداً للالتحاق بصديقها المليونير، بينما ستانلي يلعب الورق مع أصدقائه في الحجرة الأمامية. وبينما ينتظر الجميع، في الواقع، قدوم الطبيب لأخذ بلانش إلى المصحة العقلية، تعترف ستيلا لجارتها، بما رددته بلانش على مسامعها وادعائها بأن ستانلي اعتدى عليها، ما يؤكد برأيها، فقدان بلانش لعقلها.
كاتب وبعد انساني
"كل شيء في حياة وليامز في مسرحياته، وكل ما في مسرحياته في حياته". هذا القول لإيليا كازان، مخرج معظم مسرحيات تينسي وليامز (1911 1983)، يلخص البعد الإنساني لهذا الكاتب والشاعر الذي استلهم مجمل أعماله من طبيعة حياته في محيط أسرته المفككة، منذ طفولته وحتى شبابه، والتي كان كل فرد فيها نموذجاً لشخصيات عديدة، مثل: الأم والأب.
وعليه كرس وليامز موهبته الأدبية حول الأشخاص الأقل حظاً في الحياة، واكتشاف كوامن نفس الإنسان الداخلية التي يعتبرها هدفه الأبرز، إذ يعتبر أن واقع العالم الذي يعيش فيه الناس بأجسادهم، يختلف عن العالم الموضوعي الذي يكمن في أعماق قلوب الناس، وأن حقيقة وواقع الحياة، محجور عليهما في قلوبهم وعقلهم الباطن.
وآل على نفسه أن يقدم الحقيقة بأسلوب "الواقعية الشعرية" كنهج فني. أما هذه الحركة الأدبية فظهرت في الغرب خلال الفترة: من 1840 وحتى 1880، كنظرية في الكتابة، تعتمد على جعل النص مرآة للواقع عبر غلالة من الوهم.
ولم تمنع قناعة وليامز، المتمثلة في كون أدبه امتداداً لأسلافه من تشيخوف وستريندبرغ وأونيل وبروك، من تكسير مفهوم الواقعية التقليدية وتعديلها في فضاء المسرح، والنفوذ إلى عوالم شخصيات أعماله على خشبة المسرح.
روز والإدمان
الفرد الوحيد من أسرة وليامز، الذي ارتبط به هو شقيقته روز التي كانت تعاني من مرض الشيزوفرينيا، منذ شبابها. إذ تحتم ادخالها الى المصحة العقلية في عام 1943 نظراً لحدة سلوكها. وبادر وليامز لحظة توفر المال بين يديه، إلى نقلها إلى مصحة خاصة قريبة من مقر إقامته في نيويورك.
ويرى الدارسون لسيرته الذاتية، أن مرض روز تسبب في ادمانه على الكحول والمخدرات ونوبات الاكتئاب، التي أودت في مجملها، بحياته المضطربة، حين كان عمره 71 عاماً.

شهرة وليامز
بدأت شهرة وليامز مع عرض مسرحيته "الزجاج الوحشي" في شيكاغو، خلال عامي 1944 و1945. وايضا في نيويورك، ليتوج نجاحه بعرض مسرحيته "عربة اسمها الرغبة" عام 1947. ولم يستطع النجاح الذي منحه النجومية والثراء، التغلب على مشاعر الخوف التي تكتنفه.